أحمد بزّون

الذاكرة ملح الفن.. هذا ما يمكن فهمه في مساحات الأعمال التي قدمها الفنان إيلي بورجيلي في معرضه الذي افتتح أول أمس في غاليري "جانين ربيز" (يستمر لغاية 21 تشرين الثاني المقبل). حيث وجدنا في اللوحات الكثير من المشاهد التي تنهل من مفردات الحرب أو من معايشة خرابها وآلامها وتكسّر الحياة فيها، وتتداخل أحياناً في يوميات القلق الذي يحياه اللبنانيون يومياً.
14 لوحة مشغولة بمواد مختلفة، لا يهتم صاحبها بتقديم مساحة نظيفة وأنيقة بقدر ما يهتم بتقديم أفكاره. فالفكرة أساس، وما تبقى في اللوحة من تقنيات لا توضع في خدمتها بقدر ما تتعامل معها بالكثير من الاضطراب أو الإهمال المقصود أو الترتيب المضحك. فلا رغبة عند الفنان في الاهتمام بالمتن أكثر من الهامش، ولا في الأصل أكثر من بقاياه. وهو يقول في نص معرضه: "الأسطح والمساحات النظيفة أتركها للعقلاء ذوي الحس السليم، والتناغم والانسجام لرواد الصالونات، والقواعد والأصول للمرموقين الأنيقين". وهذا اختصار واضح لطبيعة لوحته المعاصرة التي تقترب من لوحة التجميع أو التجهيز، مغلباً فنية تجسيد الفكرة على التفنن في الأداء او الجماليات الشكلانية. وهكذا نراه غير مكترث بتناغم لوني أو بمشهدية بصرية لائقة مبهرجة وممتعة. لا بل العكس، يأتي بحطام الأشياء والمبتذل منها أحياناً، أو ببقايا مهملة، ليبني بأثرها عمله الفني.
كأن الحرب التي طالما هزت ريشة بورجيلي لمّا تزل حاضرة هنا، وقصصها تتوالد بعفوية، وبكابوسية أحياناً، فنرى شخصاً مقلوباً، ورأساً فالتاً من سترة، أو غراباً ينقر رأس رجل، أو نمراً ينهش لعبة، أو يداً طالعة من بقعة دم... على أن الكابوسية تلك ليست أساساً في استعادة كل هذا الوجع، فهو قد ينطلق من يوميات الفوضى التي نعيشها في لبنان، ليصل إلى مغارات الذاكرة، والعكس صحيح.
على أن اختلاف المسافة الزمنية هو في حد ذاته اختلاف في مستوى الغضب والانفعال وتوتير اللوحة. من دون أن يكون ذلك ميكانيكياً بالطبع. فداخل الفنان مكثف بما يكفي لتعويم قصص الحرب، فكيفما مد يده إلى كيس الذاكرة تطلع قصص وحكايات لا تنتهي.
لا مادة ترفضها لوحة بورجيلي، ما عدا المادة "النبيلة" التي لا يهتم بإغوائها. كل المواد يمكن أن تتحول إلى رموز، أو هي بقايا حكايات وأحداث، أو يمكن تأويلها في اتجاهات شعاعية كثيرة. فهو يترك للمادة التي يثبتها في اللوحة أن تكون بديلاً من التلوين أو الحفر أو النحت. فنجد قطع خشب ومعدن ورملاً وحصى وأقمشة مختلفة. هي مواد فالتة مهملة ومحتقرة، يجمعها من طوافه، يلصقها وقد يلونها أو يحفر فيها. فمعرضه نفسه حمل عنوان "مارودار"، ربما يمكننا أن نترجمه "فن الطواف"، وهو أقرب إلى "فن الرمم"، أو فن "المهمل"، أو الفن الذي يستحضره من الطواف على طلل الأماكن وآثار الأحداث والأدوات وحتى الأفكار.
يصطاد بورجيلي البقايا لا ليجمل الصورة بها، إنما ليحي أصلها، أو ينهي موتها، بل أحياناً ليصنع منها جدثاً جديداً أو حلماً جديداً، من دون أن تكون الأحلام سوى لعبة لا حساب بالضرورة لعقباها. تأخذه المادة المستخدمة أحياناً إلى عفوية التركيب أو التأليف. فيبني كرسياً من كسرات خشب، ويسخر من الجالس على الكرسي، منصّباً عليه قرداً. وهنا ينتقل إلى الوجه الثاني من تدليله على الواقع، باستخدامه السخرية بألوانها المتفاوتة بين سوداء وبيضاء، وهو يطلق على أكثر من لوحة عنوان "المرة الأولى تراجيديا.. المرة الثانية كوميديا"، في إشارة إلى حرية الحركة بين قطبين، بين عمق الفكرة واللعب معها، أو لنقل الضحك منها، فـ"شرّ البلية ما يضحك".
يعرف إيلي أبو رجيلي كيف يقدم لوحة ساخنة، أو على علاقة بالوجدان من جهة والحدث من جهة أخرى، بيوقظ الذاكرة ليس بخطابات أفيشية، إنما بسرد بصري لأفكار موجعة ومسلية في آن.

→ The link online