All
x
Thot'Thèmes - Al Akhbar newspaper
Thot'Thèmes - Al Akhbar newspaper
2008-04-05
Thot Thèmes (solo) @ CCF, Beirut, from 12/04 to 28/04/2008

إيلي أبو رجيلي لم يرَ الزهرة تطلع... ولم يقل شيئاً

بيار أبي صعب

معرض إيلي أبو رجيلي «طواطم» الذي أسدل عليه الستار، قبل أيام في بيروت (المركز الثقافي الفرنسي)، هو من دون شك أحد أهمّ الأحداث التي شهدتها الحركة التشكيليّة اللبنانيّة منذ وقت طويل. ليس فقط بسبب ذلك النزوع الطليعي الذي يضع أبو رجيلي دائماً في موقع الخارج عن السرب (لا عن اللوحة فقط!)، ويجعله قادراً على مفاجأتنا واستدراجنا إلى أقاليم عذراء من الانفعال والتأمّل والمتعة. وليس فقط بفعل المتانة التقنيّة التي تميّز أسلوبه وعالمه التشكيلي المتمكّن من أدواته ومراجعه... بل بسبب تلك الحيويّة اللاذعة التي تنضح من أعماله الجديدة (مواد مختلفة على خشب وورق)، وجرأة على التجاوز تختزن الكثير من البدائيّة والدادائيّة، من الحسيّة الشبقيّة والتعفف الصوفي، من الروحانيّة والوثنيّة، من السخرية والعبث، من النزق والعنف الداخلي: بالمعنى التعبيري القديم للكلمة، والفنّان يلامس التعبيرية التجريديّة في أكثر من مكان.
يخرج إيلي أبو رجيلي على اللوحة التقليديّة، وإطارها المحدد، إلى انفلاتات تجهيزيّة تعيد اختراع الفضاء وقواعد المنظور. لكن«التجهيز»، كقالب فنّي، ليس هاجسه الأوّل. همّه إعادة ترتيب فضاء الرؤيا، ومستويات السرد داخل تلك اللوحة المستعصية. لذلك نجد في العمل نفسه غالباً، لوحات داخل اللوحة... كما يمكن أن نتحدّث عن «المسرح داخل المسرح». مسرح أبو رجيلي تتفجّر منه الألوان، وتتوالد منه الشخصيات، وتخيّم عليه أرواح شيطانيّة مقلقة! واللوحة أرض النتوءات والمجسّمات والكائنات والأشياء التي تفلت من سطحها لتمتدّ في الأبعاد الثلاثة.
في صنعته عبث طفولي أكيد، يوازن المهارة التقنيّة وينفح فيها الروح.وفيها توق إلى تخريب القواعد وإعادة اختراعها تبعاً لرؤيا الفنان الذي يبتدع مواده وخاماته وعجينته وألوانه. يحوّل إيلي أبو رجيلي كلّ ما تقع عليه يده إلى فنّ. «يكرّر» أو يعيد تأهيل عناصر مختلفة مرميّة على ناصية الحياة اليوميّة: من الحصى والتراب، والحبال والأوتاد، إلى طلاء جفّ في علبته، أو حلزون تجمّد في محترفه... مروراً بالشاش الذي ربط فيه ذراعه ذات يوم، أو اللعبة التي حطّت مصادفة في حديقته، أو غطاء الصندوق الخشبي الذي عادت فيه لوحات معرض سابق من السفر... أو خرائط دائرة المساحة. ناهيك بمواد كيميائيّة كالـ resine، والورق الذي يعجنه ممرّغاً بالصباغات... من هذا «التجميع» يصنع أعماله. إن تكوينها الفنّي قائم غالباً على المصادفة، بالمعنى الفلسفي (فيتكنشتاين) أو الشعري (مالارميه)!
كل العناصر تدخل اللوحة، تصبح من مفرداتها البصريّة وملامحها ومكوّناتها. تصبح حكاية اللوحة. لكل لوحة حكاية، أو مرجع. هنا أغنية لبوب ديلن (مستر تمبورين)، وهناك قصيدة قديمة لحمزة عبّود (يعبرون الوقت في الاتجاه المعاكس). والعناوين تحتل موقعاً مهماً من لوحات أبو رجيلي، تضيف إلى الحكاية أو تشوّش عليها. تلعب على الطرافة وعلى الشعر ربّما: «بطّة راغبة في الاتصال بعشّها»، «لم أرَ الزهرة تطلع، ولم أقل شيئاً»، «رأيت الزهرة تطلع، وقلت آن الأوان أخيراً»...
يغوص إيلي في أشكال تعبير مستعارة من الحضارات البدائيّة، ومفرداتها الطقوسيّة، ووجوهها. يشتغل على الذاكرة وتداعياتها المختلفة، على اللاوعي. يتجلّى ذلك أساساً في استعمالاته اللونيّة الداكنة حيناً، والمتفجّرة أحياناً. واستعمال اللون هو نقطة الثقل الجوهريّة في تجربته. أزرق «مستر تمبورين» غير أزرق تلك اللوحة البودليريّة التي تجسّد شخصين ملعونين (الكلمات الزرقاء). والأحمر يأتي صارخاً في سلسلة لوحات «هذا لا يعني شيئاً»، أو في واحدة من أجمل لوحات المعرض: «أحمر مثل سماء»... هناك نزق انفعالي، في التراكم العفوي للطخات اللونيّة، نوع من الارتجال يبدو خاضعاً لطقوس بدائيّة غامضة، يأتي ليغلف العناصر المتراكمة من حيوات أخرى، ليكرّس اندماجها في متن اللوحة. وتأتي حركة الخطوط والأشكال لتعطي انطباعاً كوريغرافيّاً، وخصوصاً في مجموعة الأعمال المتوسطة الحجم التي تعود بنا إلى «اللوحة» بمفهومها التقليدي.
يرسم أبو رجيلي، وينحت، ويرقص، ويركّب، ويضحك، كمن يطرح أسئلته الميتافيزيقية والوجوديّة. إنّه حرفيّ قبل كل شيء. على باب المعرض، يوم إقفاله، يذكرنا بقول تابياس: «أنا أشتغل على الفنّ. أما الجمال فيأتي كمكافأة». 

عدد السبت ٥ نيسان ٢٠٠٨